سلسلة مغرب الحضارة صحوة المملكة: تجديد التدين وبناء الإنسان وترسيخ الهوية

عزيز رباح
الجمعة 7 نونبر 2025
من المبشرات النبوية التي تثلج صدور أهل الغرب الإسلامي، والمغرب خصوصًا، حسب وترتبط بقوة الإيمان وثباته، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
وبالرجوع إلى الرسالة الملكية إلى العلماء، بمناسبة مرور 1500 سنة على ميلاد خير البرية عليه أفضل الصلاة والسلام، وما تقرر بها وبعدها من حركية دينية، تعبر المملكة عن أرقى وأعظم تفاعل مع هذا التبشير النبوي الذي يرسخ تعلق الدولة المغربية وسلاطينها بالإرث النبوي الأصيل.
فارتباط المغاربة بالإسلام أعمق مما يُتصوَّر، وأقوى من كل محاولات التجريف والتزييف، وأرقى من بعض أقاويل التبخيس، ولذلك، تتجلّى هذه الصحوة في عناوين متعددة:
– صحوة متجددة عبر التاريخ: منذ دخول الإسلام إلى هذه الأرض المباركة، وهي تعيش صحوة بعد صحوة، تنهض بالعلم والدعوة والقرآن والسنة والجهاد. حتى في أحلك الفترات، حين تضيق السبل ويستبد اليأس بالناس وتحيط بالمملكة المؤامرات، ينبعث من جديد أمل الإصلاح ونور التدين ليضيء البلاد ويمتد إشعاعه إلى خارجها.
– نهضة قرآنية حفظا وقراءة: بعد أن كان حفظ القرآن مقتصرًا على قلة من الشيوخ، نشهد اليوم نهضة قرآنية واسعة جعلت المغرب يتبوأ مكانة عالمية، مع أكثر من مليون ونصف حافظ وحافظة، رجالًا ونساءً وأطفالًا، في القرى والمدن على حد سواء. وقد تجاوز المغاربة مرحلة التلقي إلى مرحلة الريادة، فأصبحوا يصدرون القراء إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويتألقون في كبرى المسابقات الدولية، مع حرص الأسر على تعلم القرآن لأبنائها.
– ازدهار المساجد والتدين: بعدما كانت المساجد قليلة وروادها محدودين، انتشرت اليوم في كل حي وقرية، وصارت خطب الجمعة مؤثرة وواعية، يحضرها الشباب كما الشيوخ. ولم يعد التدين غريبًا في الجامعات أو الأحياء الراقية أو المؤسسات، بل أصبح ترسخًا لدى المغاربة، يعبر عنه الشباب خاصة بروح جديدة واعتزاز.
– علماء ومؤسسات مرجعية: اليوم يزخر المغرب بآلاف العلماء والمرشدين، عربًا وأمازيغ، رجالًا ونساءً، يؤطرون الناس داخل المملكة وخارجها. وتحولت البلاد إلى أكبر مرجع عالمي وإفريقي في تكوين الأئمة والمرشدين، مما جعلها قبلة لطلب المعرفة الدينية الوسطية. وازداد الإنفاق على المؤسسات الدينية والكراتين القرآنية، كما تُراجع دوريا إجراءات التحفيز المادي للخطباء والأئمة والقيمين الدينيين.
– إعلام ديني صاعد: بعدما كان الإعلام الديني مقتصرًا على برنامج “ركن المفتي” وأنشطة شهر رمضان، أصبح اليوم حاضرًا بقوة عبر قناة وإذاعة محمد السادس، وينتقل حتماً إلى برامج متنوعة وجدابة في الإذاعات الخاصة والمنصات الرقمية، مع الحاجة إلى تجويده وضبط مضامينه، وأيضًا تكوين نخبة من الإعلاميين الدينيين بكل اللغات والتقنيات والمهارات.
– الوقف من أجل التنمية: تحظى جهود تثمين الوقف وتوسيع موارده بعناية خاصة، إذ يترسخ اعتباره أمانة في عنق القائمين عليه وبابًا من أبواب التنمية والنفع للمواطنين، والإسهام في كل المجالات الدينية، مع مراجعة عقود الكراء والاستغلال وتوجيه الأراضي إلى الاستثمار النافع، مما يجعله رافعة قوية للاقتصاد الوطني.
– التراث المغربي برواد جدد: أخذت اكاديمية الفنون التقليدية التابعة لمؤسسة الحسن الثاني على عاتقها منذ 2012 إنقاذ التراث التقليدي المهدد بالانقراض بسبب شيخوخة “المعلمين” وقلتهم، وخرجت منذ انطلاقها مئات الحرفيين الشباب والأطر في مهن حرفية وفنون تراثية متعددة. فتوريث التراث الوطني للشباب يعد إسهاما قويا لترسيخ للهوية الوطنية ومفتاحا للصمود والإشعاع الحضاري.
– صحوة شاملة بنخبة مبادرة: بفضل السياسة الدينية المتجددة، ونظرًا للحاجة إلى ترسيخ الالتزام وتقويم السلوك في المجتمع، انطلقت خطة تسديد التبليغ التي تهدف إلى توحيد الإرشاد لتثبيت العقيدة وتقوية الإيمان وتقويم السلوك وترسيخ القيم وتعزيز الوعي الديني. خطة انطلقت من المسجد وتتوسع الآن إلى المجتمع بكل فضاءاته وفئاته.
إن استحضار هذه التجليات والتحولات في الحقل الديني، يفرض النظر إليها من زاوية المصالح الكبرى المتحققة التي لا ينكرها إلا من له قصد سيء أو حساب خاص. ولا يجب أن ينظر إليها من زاوية النواقص التي لا يخلو منها أي عمل بشري، والتي تستوجب التأني في الحكم عليها والنصح الملتزم بالمنهج الإسلامي!!!
كم أن هذه الصحوة تحتاج إلى صناعة القدوة المؤثرة وتجديد النخبة الدينية وطرق تواصلها مع الفئات المتنوعة، وخاصة الشباب، كنز المملكة ومستقبلها. ومن أجل ذلك أُطلق برنامج تأهيل عشرات الآلاف من الخطباء والوعاظ والأئمة، لكسب معارف ومهارات إضافية وهي ضرورية لحسن التواصل وقوة الإقناع.
كما يجب أن تبدع خطابا دينيا وفكرا إسلاميا مناسبا لمجالات الثقافة والفن والتعليم والإعلام، وهي المجالات الأكثر تأثيرًا في بناء الإنسان، حيث يحاول التيار الرافض للثوابت الوطنية، التسلل إليها للتحكم في العقول والسلوك والانقلاب على الثوابت أو إضعافها في المستقبل!!!.
لكن للبيت رب يحميه. وإن الاحتفاء بمرور خمسة عشر قرون على ميلاد خير البرية، والمؤطر بالرسالة الملكية، يرسخ الحقيقة الثابتة والأبدية بأن المغرب مملكة إمارة المؤمنين الراسخة، ومنارة حضارية وروحية في العالم الإسلامي، وحصن لهويته الجامعة والموحدة ، ومشعل إشعاع ممتد في إفريقيا والعالم.
إنه مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ»، صحوة متجددة، وإشعاع مستمر، إلى أن تقوم الساعة.