التفاهة في ثوب التحليل… والإعلام الرياضي في مفترق الطرق

✍️ بقلم : عبد الهادي الناجي
لم يعد التحليل الرياضي اليوم ذلك الفضاء الذي تُصاغ فيه الأفكار بعمق ومسؤولية، ولا ذلك المنبر الذي يعلو فيه صوت التخصص والخبرة. فقد تسللت التفاهة في ثوب التحليل، وتسللت معها فوضى الأصوات والمظاهر، حتى صار المشهد أقرب إلى مسرحيات مباشرة منه إلى نقاشات رياضية. مشهد يختلط فيه الصراخ بالمزايدة، والارتجال بالادعاء، والجهل بالثقة الزائفة. وفي خضم هذا التحوّل، يقف الإعلام الرياضي المغربي في مفترق طرق: إما العودة إلى المهنية الرصينة… أو الاستسلام لدوامة المحتوى السطحي التي تُغرق كل قيمة في مستنقع البوز.
من زمن التحليل إلى زمن الفرجة
قبل سنوات، كان التحليل الرياضي مدرسة قائمة بذاتها: معلومة دقيقة، لغة رصينة، قراءة فنية تعتمد على الخبرة والمعايشة الميدانية. كان المحلل يحترم الجمهور، ويُقدّم رأيًا مبنيًا على معطيات، ويُحيط بالمباراة من زوايا متعددة.
اليوم، تغيّر كل شيء. أصبح “اللايف” بديلاً للميكروفون، والفرجة بديلاً للفكرة، والإثارة بديلاً للمعلومة. صار أي شخص يمتلك هاتفا يستطيع أن يُقدّم نفسه محللًا، وينتحل صفة الخبير، ويتحدث في أمور لا يُحسن حتى أبجدياتها.
التفاهة كمنهج جديد
لقد أصبحنا أمام سلوك إعلامي يُشرعن للسطحية، ويُسوّق للارتجال، ويعطي التفاهة سلطة التأثير. اختلطت الأدوار:
- من لا يعرف أبجديات اللعبة صار “أستاذا في التحليل”.
- ومن لا يميّز بين المعلومة والرأي أصبح “محاورًا”.
- ومن لا يملك ثقافة كروية أصبح “ناقدًا”.
ما نراه اليوم هو تحليل بلا مضمون، ونقاشات بلا منهج، وصراخ يُقدَّم للجمهور على أنه “جرأة” و“قوة شخصية”. والحقيقة أنه مجرد تهافت يضرّ أكثر مما ينفع، ويحوّل الرياضة إلى مادة للفرجة بدل أن تكون مساحة للفكر والنقاش الرصين.
صناعة البوز بدل صناعة الوعي
المشكل ليس في المنصات، بل في من يُسيّرها ويُدير خطابها. فبدل أن تكون أداة لإغناء النقاش، صارت وسيلة لصناعة “البوز” بأي ثمن—even على حساب الحقيقة.
ولأن الجمهور يُحب الإثارة، فقد انخرط البعض في تقديم محتوى “ساخن” يوميًا، حتى ولو كان فارغًا. ليصبح التحليل مجرد أداة استهلاك يومي، يُقدَّم بارتجال، ويتغذى على الهجوم والاتهامات وتضخيم الصراعات.
تقاطع خطير… ومستقبل مهدد
نحن أمام مرحلة حساسة. إذا استمر هذا الوضع، فستُطمس الحدود بين الصحافة والفرجة، وبين التحليل والتسويق، وبين المهنية والتفاهة. وسينشأ جيل لا يعرف قيمة التحليل الحقيقي، ولا يفرّق بين رأي مبني على الخبرة وآخر مبني على الانفعال.
إعادة الاعتبار للمهنة
من الضروري اليوم أن نعيد ترتيب البيت الإعلامي.
أن نُعيد للمحلل مكانته، وللنقد دورَه، وللمعلومة قيمتها.
فالإعلام الرياضي ليس منصة للتهريج، ولا وسيلة لتصفية الحسابات، ولا مسرحًا للتفاهة.
إنه مسؤولية ورسالة ومرآة لوعي مجتمع كامل.
وفي مفترق الطرق الذي نعيشه، سيظل السؤال قائمًا:
هل نختار طريق التخصص والمهنية، أم نستسلم لسطحية تُهدّد الإبداع وتُفسد الذوق وتُشوّه الرياضة نفسها؟