ثغاء الذكريات … حينما تحملني أصوات الأنعام إلى مهد الطفولة والصبا
*** الدكتور الصادق البديري
في لحظة واحدة ، تكفي لحظة واحدة فقط، لتنهار كل الجدران التي بنيتها حول قلبي ، لحظة واحدة لتعود الروح إلى موطنها الأول ، تاركة الجسد يقف حائراً في ريف الرباط .
بينما تسافر هي بأجنحة الشوق إلى مشاريع والدي رحمة الله عليه في المقينص، تلك البقعة الطاهرة التي تقع على الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، حيث نبت قلبي وترعرعت أحلامي .
كان ثغاء صغار الضأن والماعز ينساب في الهواء كأنه لحن حزين من سيمفونية الريف المغربي، أصوات ناعمة تشكو البُعد عن أمهاتها ، تستغيث بصوت رقيق يخترق صمت المساء .
وها أنا أقف مسمراً في مكاني، وقلبي يرتجف مع كل ثغاء، وذاكرتي تفتح أبوابها المنسية على مصراعيها . هذا الصوت.. هذا الصوت البريء الذي طالما أيقظني فجراً في المقينص، عندما كانت الدنيا أبسط ، والقلب أطهر ، والعالم لم يفقد بعد معنى البراءة .
ثم جاء مواء صغار الأبقار ، ذلك النداء الحنون الذي يحمل في طياته كل معاني الحنين إلى الدفء والأمان ، صوت يشبه الدعاء، يشبه صرخة القلب الذي يبحث عن ملاذه الآمن .
وأنا هنا ، في هذه الأرض الطيبة ، أسمع نفس الأصوات التي كانت تملأ صباحات طفولتي ، لكنها اليوم تحمل طعم الفراق ولون الأسى .
رائحة الروث تتصاعد من الأرض كأنها عطر الذكريات المكتوم، رائحة الأرض النقية والحياة البسيطة التي لا تعرف التعقيد ولا التصنع .
منظرها الذي قد يبدو للبعض عادياً ، يحمل لي كل معاني الأصالة والعودة إلى الجذور، هذا هو عطر الطفولة ، عطر الأرض التي احتضنت أول خطواتي وأول كلماتي وأول أحلامي .
وهناك، في الحقول الجافة التي امتصت آخر قطرات الماء من حبات الذرة المحصودة ، ترعى الماشية في صمت وسكينة .
منظر يحبس الأنفاس في جماله البسيط ، يذكرني بتلك الأراضي الواسعة في المقينص حيث كانت ماشية والدي تجوب الحقول كأنها تكتب قصيدة حب على وجه الأرض بخطواتها الهادئة .
هناك ، في تلك البقعة المباركة من الأرض، كان كل شيء يتكلم بلغة الفطرة ، كانت الأصوات أعذب ، والروائح أطهر ، والمناظر أجمل .
كان والدي يمشي بين الماشية كأنه راعي أحلام ، وكنت أركض خلفه كأنني أطارد قطعة من السماء سقطت على الأرض .
اليوم، وأنا أقف في ريف الرباط ، تسرح روحي بعيداً ، تسافر عبر الزمن والمكان إلى تلك الأيام الخوالي .
دموعي تنهمر بغزارة ، مدراراً كأنها المطر الذي طال انتظاره ، تغسل وجهي وتطهر قلبي من ألم الفراق .
ومن حولي أرى وجوهاً حانية تحاول فهم ما يحدث لي، قلوباً طيبة تسعى لمواساتي دون أن تدرك أن ألمي أعمق من أن تصل إليه الكلمات .
يحاولون إغلاق صوت الفنان محمد الأمين الذي ينساب من راديو السيارة ، ظناً منهم أن الموسيقى هي التي أيقظت أحزاني .
لا يدركون أن هذا الصوت الجميل يحمل أيضاً ذكريات طفولتي، يلجؤون أحياناً إلى الصمت ، معتقدين أن السكوت سيخفف من وطأة الذكريات .
لكن كيف لهم أن يعلموا أن الصمت أيضاً كان رفيق أيامي في المقينص ؟ صمت الفجر عندما كان العالم ينهض من نومه على أصوات الديكة وثغاء الماشية ، صمت المساء عندما كانت النجوم تحكي أسرارها للأرض النائمة .
آه يا مقينص ، يا أرض الطفولة والأحلام ، يا موطن القلب والروح ، كم أشتاق إلى تلك الأيام البسيطة عندما كان السؤال الوحيد في ذهن الطفل الصغير هو : متى سيعود والدي من الحقل ؟ عندما كان أعظم فرح في الدنيا هو أن أركب على ظهر إحدى الأبقار ، أو أن ألعب مع صغار الماعز في الحظيرة .
اليوم في هذا المساء الرباطي الجميل ، أدرك أن المسافات لا تُقاس بالكيلومترات ، وأن الأزمنة لا تُحسب بالسنوات .
فهناك مسافات تُقطع بخفقة قلب واحدة ، وهناك أزمنة تُطوى في لحظة حنين واحدة ، وها أنا ، رغم كل المسافات والسنوات ، ما زلت ذلك الطفل الذي يركض خلف والده في حقول المقينص ، يحلم بغد أجمل ووطن أكبر .
ولكن مهما طال المقام ومهما بعدت المسافات ، ستبقى تلك الأرض الطيبة نابضة في عروقي ، خافقة في قلبي، حية في ذاكرتي ، وستبقى أصوات ماشية والدي هي الموسيقى الأعذب في سمفونية عمري ، والذكرى الأجمل في قصة حياتي .